
المحتويات
مقدمة
في عالم التجارة والاقتصاد، لا تكتمل الثقة بين المتعاملين إلا بوجود أدوات قانونية تضمن الالتزام بالسداد، وتوفر أمانًا في التعاملات المالية. ومن بين هذه الأدوات يبرز الشيك باعتباره وسيلة شائعة للوفاء، لا سيما في المعاملات التجارية التي تتطلب السرعة في الإنجاز والوضوح في الالتزامات.
إلا أن إصدار شيك بدون رصيد أصبح ظاهرة متكررة، أثارت الكثير من الجدل بين القانونيين، وتعددت حولها الآراء بين من يراها جريمة جنائية تامة، ومن يعتبرها نزاعًا مدنيًا مغلفًا بقشرة جنائية، أو حتى وسيلة ضغط غير مشروعة يستخدمها بعض التجار أو الدائنين للابتزاز أو لإجبار الطرف الآخر على الوفاء بشروط معينة.
فهل الشيك بدون رصيد جريمة يعاقب عليها القانون بلا استثناء؟ أم أن استخدامه في غير غرضه المشروع يجرده من الحماية القانونية؟ وهل حان الوقت لإعادة النظر في النصوص المنظمة لهذا الموضوع؟ هذا ما نحاول إيضاحه في هذا المقال.
ما هو الشيك قانونًا؟
الشيك، وفقًا لقانون التجارة المصري رقم 17 لسنة 1999، هو:
“أمر مكتوب صادر من الساحب (مصدر الشيك) إلى البنك المسحوب عليه بأن يدفع في تاريخ معين أو بمجرد الاطلاع مبلغًا معينًا من المال إلى شخص معين أو لأمره أو لحامله.”
وبالتالي، فالشيك يُعد من أدوات الوفاء الفورية، أي أنه مستحق الدفع بمجرد تقديمه للبنك، ولا يُقبل فيه التأجيل أو التمهل. وهذا ما يميّزه عن الكمبيالة والسند الإذني، ويجعله أكثر انتشارًا في الحياة اليومية والتجارية.
متى يُصبح الشيك بدون رصيد جريمة؟
عند تقديم الشيك إلى البنك ورفض صرفه بسبب عدم وجود رصيد كافٍ، أو وجود رصيد أقل من قيمة الشيك، فإن القانون يعتبر ذلك جريمة يعاقب عليها بالحبس والغرامة، وفقًا للمادة (534) من قانون التجارة.
ويكفي لوقوع الجريمة أن يكون الساحب قد أصدر الشيك وهو يعلم بعدم وجود رصيد كافٍ. ولا يُشترط أن يكون هناك نية سيئة أو رغبة في الإضرار بالطرف الآخر، فالجريمة في هذه الحالة شكلية، تتحقق بمجرد توافر عناصرها.
وقد أضافت المادة (535) من القانون نفسه أن الجريمة تظل قائمة حتى لو أوفى الساحب بقيمة الشيك لاحقًا، ما لم يكن ذلك قبل تقديم الشيك للبنك.
والجدير بالذكر أن جرائم الشيك الواردة في قانون التجارة متعددة، وغير مقصورة على الصورة الشائعة في جريمة الشيك بدون رصيد.
استخدام الشيك كأداة ضغط
ورغم وضوح النص القانوني، إلا أن الواقع العملي يشهد حالات متعددة يتم فيها استخدام الشيك كوسيلة ضغط، وليس كأداة وفاء.
ففي كثير من المعاملات، يُطلب من الطرف الأضعف (غالبًا المدين أو العميل) تحرير شيك على بياض أو شيك بتاريخ لاحق، كضمان لتنفيذ التزام معين، كالتوريد أو التسليم أو السداد.
ويُحتفظ بالشيك كورقة ضغط تُستخدم في حال الإخلال بالاتفاق، بغض النظر عن وجود رصيد من عدمه.
وفي بعض الحالات، يكون تحرير الشيك مشروطًا بتصرف لاحق، كالحصول على دفعة مقدمة أو تنفيذ خدمة، فإذا لم يتم ذلك، يُعتبر تقديم الشيك للبنك تجاوزًا للاتفاق الأصلي، ورغم ذلك تظل الجريمة قائمة قانونًا.
هل القانون يُميز بين الشيك كأداة وفاء وكأداة ضمان؟
قضت محكمة النقض المصرية في أكثر من مناسبة بأن الشيك لا يفقد صفته القانونية لمجرد أنه استُخدم كضمان، طالما كان مستوفيًا لكافة شروطه الشكليّة، أي أنه:
- صادر عن شخص له أهلية قانونية.
- موقّع توقيعًا صحيحًا.
- يحمل تاريخ استحقاق.
- قابل للتداول.
وهنا، تبرز الإشكالية العملية:
هل يُعقل أن يعاقب القانون من أصدر شيكًا كان واضحًا أنه أداة ضغط فقط، لم يكن الغرض منه الوفاء الحقيقي؟
وهل نغفل نية الدائن في استغلال الشيك لمجرد أنه مكتمل الشكل؟
هناك قاعدة قانونية عرفية تُعرف باسم أن الشيك البنكي في المجال الجنائي منزه عن باعثه، حيث إن الجريمة تقوم بمجرد أن يكون هناك شيك تم تحريره مستوفيًا أوضاعه الشكلية، ولم يكن هناك رصيد في تاريخ صرفه، بغض النظر عن سبب تحرير الشيك أو غرضه أو مدى استحقاقه.
هذا ما جعل بعض الفقهاء يُطالبون بضرورة إدخال عنصر “النية” في تقدير الجريمة، أو على الأقل إعطاء القاضي مرونة لتقدير الوقائع بشكل أشمل. وهو ما يتناسب مع ما للقاضي الجنائي من سلطة تقديرية واسعة في تقدير ظروف وملابسات الجريمة بشكل عام، دون المساس بالغرض التشريعي للحماية الجنائية للشيك البنكي.
ولكن هذا لا يجعل من الشيك أداة حصينة ضد الدفوع القانونية الشكلية والموضوعية للشيك في المجال الجنائي، ولا يقدح هذا الأمر في أن لجريمة الشيك أسباب إباحة (أسباب الإباحة في الشيك)، لا قِوام للجريمة في حال توافر إحداها.
موقف القضاء من هذه المسألة
المحاكم المصرية بدأت تتعامل بقدر من الحكمة والمرونة مع قضايا الشيكات، لا سيما في ظل الطفرة الكبيرة في عدد القضايا المنظورة بسبب شيكات الضمان.
وفي بعض الأحكام، أظهرت المحاكم تمييزًا بين النية الجنائية وعدمها، واعتبرت أن وجود اتفاق واضح بين الطرفين على أن الشيك مجرد ضمان يُضعف من عنصر الإجرام، وقد يؤدي إلى وقف تنفيذ الحكم أو الاكتفاء بالغرامة.
وفي المقابل، فإن بعض المحاكم لا تزال تُطبق النص بشكل صارم، وتعتبر أن حماية الائتمان والثقة في الشيكات أهم من مناقشة نوايا الأطراف، مما يُسبب أحيانًا ظلمًا للمدينين حسن النية.
الشيك في ضوء التوازن بين الحق والعقوبة
ما يجب التنبه له أن حماية التعامل بالشيكات لا يجب أن تتحول إلى سلاح ترهيب. فهناك من يستغل النظام الجنائي للضغط، مستندًا إلى نصوص واضحة، لكنه يستخدمها في غير مقصدها.
وفي المقابل، لا يمكن التساهل مع من يُصدر شيكًا دون تغطية، وهو يعلم أنه لن يتمكن من السداد، مما يؤدي إلى تكدس القضايا الجنائية، وزعزعة الثقة في النظام المالي.
ولهذا، يُطالب بعض المختصين بـ:
-
- إدخال تعديل تشريعي ينص صراحة على أن الشيك الضمان لا يُعد جريمة، ما لم يثبت سوء النية أو التحايل.
-
- منح القاضي سلطة تقديرية لتقييم طبيعة العلاقة بين الطرفين والظروف المحيطة بإصدار الشيك.
-
- إدخال نظام الشيكات الإلكترونية ذات التغطية الفورية، بما يقلل من حالات إصدار الشيكات الورقية غير المغطاة.
توصيات قانونية وعملية
لمنع الوقوع في هذا الإشكال، يمكن تقديم النصائح التالية:
- لا توقّع شيكًا إلا إذا كنت قادرًا على تغطيته، أو لديك اتفاق مكتوب يُحدد طبيعة استخدامه.
- لا تقبل شيكًا كضمان إلا بعد التحقق من وجود رصيد أو الحصول على التزام مكتوب صريح.
- أدرج شرطًا في الاتفاق التجاري يُوضح ما إذا كان الشيك للوفاء أو للضمان.
- احتفظ بمستندات الاتفاق الأصلي، لأنك قد تحتاجها للدفاع عن نفسك إذا تم تحريك دعوى جنائية.
خاتمة
الشيك بدون رصيد يظل في نظر القانون المصري جريمة مكتملة الأركان، لكنها في نظر الواقع العملي قد تكون وسيلة ضغط لا أكثر. التحدي الحقيقي يكمن في التوازن بين حماية الثقة التجارية ومنع إساءة استخدام القانون الجنائي.
إن تطوير النصوص التشريعية، وتوعية الأطراف المتعاملة، وتمكين القاضي من قراءة الوقائع بتأنٍّ، كل ذلك يمثل الطريق نحو نظام مالي أكثر عدلًا وإنصافًا.