نظم وخدمات الدفع، التكنولوجيا المالية وتنظيم النقد الأجنبي في قانون البنك المركزي
Posted in :
مقدمة
يُعد قانون البنك المركزي المصري والقطاع المصرفي رقم 194 لسنة 2020 أحد أهم التشريعات التي أعادت تنظيم العلاقة بين الجهاز المصرفي والاقتصاد الحقيقي في مصر.
في مقالات سابقة تعرضنا للأبواب الأول والثاني والثالث من قانون البنك المركزي، ويأتي البابان الرابع والباب الخامس من هذا القانون في قلب التحوّل الرقمي والمالي، إذ يتناول الأول نظم وخدمات الدفع والتكنولوجيا المالية، بينما ينظم الثاني التعامل في النقد الأجنبي وسوق الصرف.
هذا المقال يقدّم قراءة متسلسلة وواضحة لأحكام هذين البابين، مع إبراز ما يهم الشركات والأفراد والمستثمرين والمهتمين بمجال التكنولوجيا المالية في مصر وتنظيم النقد الأجنبي.
أولًا: الباب الرابع – نظم وخدمات الدفع والتكنولوجيا المالية
1. فلسفة تنظيم نظم وخدمات الدفع
مع التوسع في المدفوعات الإلكترونية والمحافظ الرقمية وبوابات الدفع، لم يعد من الممكن ترك هذا المجال الحساس دون إطار قانوني صارم. لذلك يضع الباب الرابع قواعد واضحة تحكم:
- من له الحق في تشغيل نظم الدفع (مشغلي نظم الدفع).
- ومن له الحق في تقديم خدمات الدفع للجمهور (مقدمي خدمات الدفع).
ويحظر القانون على أي شخص طبيعي أو اعتباري مزاولة نشاط تشغيل نظم الدفع أو تقديم خدمات الدفع دون ترخيص من البنك المركزي، كما يحظر استخدام مسميات مثل “مشغّل نظم دفع” أو “مقدّم خدمات دفع” في الدعاية أو الاسم التجاري دون تسجيل وترخيص.
بهذا التقييد، يسعى المشرّع إلى حماية السوق من الكيانات غير المنضبطة، وتقليل مخاطر الاحتيال، وضمان أن من يدخل هذا المجال لديه ملاءة مالية وكفاءة فنية وحوكمة جيدة.
2. مشغلو نظم الدفع ومقدمو خدمات الدفع
يفرق القانون بوضوح بين:
- مشغّل نظام الدفع: الجهة التي تدير البنية التحتية لنظام الدفع نفسه، بما يشمله من قواعد مقاصة وتسوية وتبادل أوامر تحويل بين بنوك ومؤسسات مختلفة.
- مقدّم خدمات الدفع: الجهة التي تتعامل فعليًا مع العملاء (أفراد أو شركات) وتقدّم لهم خدمات مثل:
- المحافظ الإلكترونية
- بوابات الدفع الإلكترونية
- خدمات نقاط البيع (POS)
- تحصيل الفواتير والاشتراكات والمدفوعات المختلفة
ويشترط البنك المركزي لمنح الترخيص توافر حد أدنى لرأس المال، وشكل قانوني معين، ومتطلبات صارمة تتعلق بالكفاءة الفنية وحسن السمعة والإفصاح عن هيكل الملكية والتكنولوجيا المستخدمة.
وبعد الترخيص، يتم تسجيل مشغلي نظم الدفع ومقدمي خدمات الدفع في سجل خاص بالبنك المركزي، مع سداد رسوم فحص ومعاينة، مما يعزز من شفافية السوق وقابلية الرقابة.
3. الرقابة على نظم الدفع وحماية أموال العملاء
لا يكتفي القانون بمرحلة الترخيص، بل يضع إطارًا متكاملًا لـ الرقابة والإشراف، يشمل:
- قواعد التشغيل البيني بين نظم الدفع المختلفة.
- شروط ومواصفات الهيكل التنظيمي، وإجراءات الحوكمة وإدارة المخاطر.
- متطلبات الرقابة المكتبية والتفتيش الميداني.
- معايير أداء الخدمة، ومؤشرات الأداء الرئيسية ونشرها.
- ضوابط التعاقد مع شركات التعهيد، وقواعد حماية أموال العملاء، وقواعد الشفافية وتحديد أسعار الخدمات.
وفي مواجهة المخاطر التشغيلية والتجارية، يجوز للبنك المركزي إلزام مشغّل نظام الدفع بإنشاء صندوق لضمان المخاطر، كما يلتزم مشغلو نظم الدفع ومقدّمو خدمات الدفع بتقديم ضمان مالي لتنفيذ شروط الترخيص والوفاء بالالتزامات، مما يطمئن العملاء والمستثمرين على استقرار السوق.
4. نهائية التسوية وأهمية النظم ذات الأهمية النظامية
من النقاط الجوهرية في الباب الرابع أن أوامر التحويل التي تتم وفق قواعد تشغيل نظم الدفع تكون نهائية وواجبة النفاذ بعد لحظة معينة يحددها البنك المركزي.
كما يجيز القانون لمجلس إدارة البنك المركزي تصنيف بعض نظم الدفع باعتبارها “نظمًا ذات أهمية نظامية”؛ أي أن توقفها أو تعثرها قد يؤثر على استقرار النظام المالي ككل. في هذه الحالة:
- تُمنح هذه النظم معاملة خاصة.
- لا يجوز المساس بالمدفوعات التي تمت وأصبحت نهائية.
- تكون مطالبات المشاركين المضمونة بأوراق أو أدوات مالية ذات أولوية خاصة في حال الإفلاس أو تسوية الأوضاع.
هذا النهج يجعـل من نظم الدفع الكبرى جزءًا من البنية التحتية الحرجة للنظام المالي، أشبه بخطوط الكهرباء أو شبكات الاتصالات على مستوى الاقتصاد.
5. الخصم المباشر كأداة حديثة للمدفوعات
يتناول الباب الرابع أيضًا تنظيم أوامر الخصم المباشر (Direct Debit)، وهي أداة مهمة للمدفوعات المنتظمة مثل الأقساط والفواتير والاشتراكات.
يجيز القانون لأي شخص إصدار تفويض خصم مباشر، ويجعل من أصدر التفويض ضامنًا للوفاء بقيمة أوامر الخصم، مع إلزام الجهة المسحوب عليها بتنفيذ الأمر متى توفر الرصيد. كما يقرّر أحكامًا خاصة لإثبات الامتناع عن الدفع، ويربط ما لم ينظمه النص بأحكام قانون التجارة، مع مراعاة طبيعة الخصم المباشر.
ثانيًا: التكنولوجيا المالية في مصر – بيئة اختبار وقواعد إلكترونية متطورة

1. دعم الابتكار عبر بيئة الاختبار الرقابية
يدرك المشرّع أن التكنولوجيا المالية (FinTech) لم تعد خيارًا، بل ضرورة. لذلك يمنح الباب الرابع (الفصل الثاني) للبنك المركزي أدوات رئيسية لتعزيز الابتكار، من أهمها:
- إنشاء بيئة اختبار رقابية (Regulatory Sandbox) لتجربة تطبيقات التكنولوجيا المالية والتكنولوجيا الرقابية في بيئة محكومة ومحددة المخاطر.
- إمكانية الإعفاء المؤقت من بعض متطلبات الترخيص للشركات الناشئة، بما يتيح لها تجربة حلول جديدة في مجال المدفوعات والخدمات المالية المبتكرة، تحت إشراف البنك المركزي.
بهذا الأسلوب يوازن القانون بين أمرين:
حماية النظام المالي من المخاطر، وفي نفس الوقت عدم “خنق” الابتكار مبكرًا بالقيود التقليدية.
2. التطبيقات الإلكترونية، التوقيع الإلكتروني وحجية المستندات الرقمية
يتناول القانون بالتفصيل:
- معايير ومتطلبات التطبيقات الإلكترونية التي تسمح بالولوج إلى حسابات العملاء لدى البنوك أو مقدمي خدمات الدفع وتنفيذ المعاملات عليها.
- التزام البنوك ومقدمي الخدمات بإتاحة هذا الولوج إذا تحققت المعايير، بما يمهّد لتطبيقات تشبه الـ Open Banking.
- إلزام الجهات المرخص لها بالاحتفاظ بـ نسخ إلكترونية من السجلات والعقود والمستندات، ومنح هذه الصور الإلكترونية حجية أصل المحررات في الإثبات إذا تم الاحتفاظ بها وفق معايير فنية يضعها البنك المركزي.
- تنظيم المصادقة الإلكترونية على أوامر الدفع وأوامر التحويل، والتسوية الإلكترونية للشيكات، وإصدار وتداول الشيكات الإلكترونية، وتفويض الخصم المباشر في صورته الإلكترونية.
كل ذلك يعكس توجهًا واضحًا نحو رقمنة المعاملات البنكية بشكل كامل، مع الحفاظ على القوة القانونية للمحررات الإلكترونية.
3. العملات المشفرة والنقود الإلكترونية في مصر
من أكثر النقاط حساسية في الباب الرابع ما يخص العملات المشفرة والنقود الإلكترونية.
القانون يحظر إصدار العملات المشفرة أو النقود الإلكترونية أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها دون الحصول على ترخيص صريح من مجلس إدارة البنك المركزي.
هذا يعني أن التعامل العشوائي أو عبر منصات غير مرخّصة في العملات المشفرة يقع خارج الإطار القانوني، وأن أي توسّع منظم في هذا المجال لن يكون إلا عبر قنوات خاضعة للرقابة والضوابط الصارمة، حفاظًا على:
- استقرار النظام المالي.
- حماية المتعاملين من الاحتيال وغسل الأموال.
- ضمان تتبع حركة الأموال داخل وخارج الاقتصاد الرسمي.
ثالثًا: الباب الخامس – تنظيم التعامل في النقد الأجنبي وسوق الصرف
بعد تنظيم المدفوعات الإلكترونية والتكنولوجيا المالية، ينتقل القانون في الباب الخامس إلى محور لا يقل أهمية: تنظيم التعامل في النقد الأجنبي. هذا التنظيم يمس الأفراد، والشركات، والمستثمرين، وشركات السياحة، والقطاع التصديري والاستيرادي.
1. تراخيص شركات الصرافة وشركات تحويل الأموال
يمنح القانون لمجلس إدارة البنك المركزي سلطة الترخيص لـ:
- شركات الصرافة للتعامل في النقد الأجنبي.
- بعض الجهات الأخرى التي يحددها القانون.
ويشترط أن تتخذ شركة الصرافة شكل شركة مساهمة مصرية، وأن يكون رأسمالها المصدر والمدفوع لا يقل عن 25 مليون جنيه، وأن يكون غرضها الوحيد مزاولة عمليات الصرافة.
كما ينظّم الباب الخامس:
- تسجيل شركات الصرافة في سجل خاص لدى البنك المركزي.
- أداء رسوم معاينة للمركز الرئيسي والفروع.
- تعيين مراقب حسابات من المقيدين بسجل مراقبي الحسابات بالبنك المركزي.
- الالتزام برسم رقابة سنوي على شركات الصرافة وشركات تحويل الأموال.
أما شركات تحويل الأموال، فيُشترط أن تكون أيضًا شركة مساهمة برأسمال لا يقل عن 25 مليون جنيه، مع إمكانية ترخيص فروع لشركات أجنبية برأسمال مخصص لا يقل عن مليون دولار، تحت رقابة البنك المركزي.
2. تنظيم سوق الصرف الأجنبي وسعر صرف الجنيه
يقرّر الباب الخامس أن قواعد تنظيم سوق النقد الأجنبي يصدر بها قرار من مجلس إدارة البنك المركزي، وأن سعر الصرف للجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية يتحدد وفقًا لـ قوى العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي، وليس بقرار إداري مباشر.
هذا يعكس فلسفة اقتصادية تعتمد على:
- تحرير نسبي لسعر الصرف.
- ترك السوق (المُنظم والخاضع للرقابة) يحدد السعر بناءً على المعروض والطلب.
- وفي نفس الوقت، منح البنك المركزي أدوات رقابية على الجهات المتعاملة في النقد الأجنبي لضمان عدم الإضرار بالمصلحة الاقتصادية العامة.
3. حق الأفراد والشركات في الاحتفاظ بالنقد الأجنبي والتعامل به
من المسائل التي تهم الأفراد والمستثمرين أن القانون يوضح:
- لكل شخص طبيعي أو اعتباري الحق في الاحتفاظ بما يؤول إليه أو يملكه أو يحوزه من نقد أجنبي.
- له أيضًا الحق في التعامل أو إجراء أي عملية من عمليات النقد الأجنبي، بما في ذلك التحويل للداخل والخارج.
- تتم هذه العمليات فقط عن طريق البنوك أو الجهات المرخّص لها بالتعامل في النقد الأجنبي طبقًا لقواعد يضعها البنك المركزي.
وفي المقابل، يقرر القانون أن الأصل في التعامل داخل جمهورية مصر العربية هو الجنيه المصري، ما لم يوجد نص خاص في قانون أو اتفاقية دولية، أو قرار من مجلس إدارة البنك المركزي يسمح بخلاف ذلك.
4. حدود إدخال وإخراج النقد الأجنبي والنقد المصري
ينص الباب الخامس على ضوابط واضحة لحركة الأموال مع المسافرين:
- إدخال النقد الأجنبي إلى البلاد مكفول للجميع، مع وجوب الإفصاح إذا تجاوز المبلغ 10,000 دولار أمريكي أو ما يعادلها.
- إخراج النقد الأجنبي من البلاد مسموح به حتى 10,000 دولار أمريكي أو ما يعادلها، مع إمكان إخراج ما سبق الإفصاح عنه عند الدخول إذا زاد عن هذا الحد.
- بالنسبة للنقد المصري، يحدد مجلس إدارة البنك المركزي الحد المسموح بحمله عند الدخول أو الخروج.
- يحظر إدخال أو إخراج النقد الأجنبي أو المصري عبر الرسائل أو الطرود البريدية.
بهذه القواعد يسعى القانون إلى مكافحة:
- تهريب الأموال.
- غسل الأموال وتمويل العمليات غير المشروعة.
- وفي نفس الوقت عدم تقييد الحركة المشروعة للمسافرين والتجّار والمستثمرين.
5. دور البنوك في عمليات النقد الأجنبي والرقابة على السوق
يمنح الباب الخامس للبنوك المرخَّصة الحق في:
- القيام بكافة عمليات النقد الأجنبي: قبول الودائع، التحويل للداخل والخارج، تشغيل وتغطية الأرصدة بالعملات الأجنبية، بل واستيراد وتصدير العملات الأجنبية بعد موافقة البنك المركزي.
وفي المقابل، يلتزم كل من:
- البنوك
- شركات الصرافة
- الجهات الأخرى المرخص لها بالتعامل في النقد الأجنبي
بتقديم بيانات دورية للبنك المركزي عن العمليات التي تتم سواء لحسابها أو لحساب الغير، ليقوم البنك المركزي بدوره في مراقبة تنفيذ القانون واللوائح وضبط أي ممارسات قد تضر بسوق الصرف أو المصلحة الاقتصادية العامة.
خاتمة: تكامل بين الرقمنة والانضباط النقدي
يمثل الباب الرابع والباب الخامس من قانون البنك المركزي المصري محورين متكاملين:
- الأول يرسّخ البنية القانونية لنظم وخدمات الدفع والتكنولوجيا المالية، ويضبط عمل مشغلي نظم الدفع ومقدمي خدمات الدفع، ويحمي العملاء، ويفتح الباب في الوقت ذاته أمام الابتكار الرقمي بضوابط واضحة، كما ينظّم التعامل مع النقود الإلكترونية والعملات المشفرة.
- الثاني يضع قواعد تنظيم التعامل في النقد الأجنبي وسوق الصرف، بدءًا من شركات الصرافة وشركات تحويل الأموال، مرورًا بحق الأفراد والشركات في الاحتفاظ بالنقد الأجنبي والتعامل به، وصولًا إلى تحديد سعر الصرف وفق قوى العرض والطلب، مع رقابة لصيقة من البنك المركزي.
في النهاية، يعكس هذا الإطار التشريعي رؤية شاملة تجعل من القطاع المصرفي المصري أكثر قدرة على مواكبة التطور الرقمي في المدفوعات من جهة، وأكثر انضباطًا في إدارة النقد الأجنبي وسوق الصرف من جهة أخرى، بما يحقق توازنًا ضروريًا بين الابتكار والاستقرار.